نحو طريقة بديلة لإصلاح التعليم قبل الجامعي في مصر
د. هاني سعيد عبد الرحمن الشتلة
أستاذ مساعد الإقتصاد- مركز البحوث
Dr_hany.drc66@yahoo.com
يستقطب التعليم قبل الجامعي فيما يبدو جانبا كبيرا من إهتمامات الرأي العام في مصر، فمن جهة يري فيه الآباء والأبناء السبيل إلي الإرتقاء الإجتماعي والإقتصادي، فهو الذي يحدد مصير الطالب بدخوله الكلية التي تؤهله لكي يكون فردا ذا قيمة في المجتمع والحياة العملية فيما بعد، ومن جهة أخري فهو متهم بمجابهة الإنصاف والإفتقار إلي إعداد اليافعين للتعليم الجامعي، ومواجهة تحديات التنمية في المجتمع، وإذا أريد لهذه المرحلة أن تكون مجالا كافيا لإكتساب القيم والمواقف وتناسق الإتجاهات، وتحقيق التنمية المنشودة، والإرتقاء برأس المال البشري، وجب إعادة النظر فيها من حيث المضمون والتنظيم، ويحضرني هنا قول لافونتين في إحدي رواياته الفلاح والطفل، التي يقول فيها: قال العجوز: إحذروا بيع الميراث الذي تركه لنا آباؤنا، ففيه كنز مكنون، وكان العجوز حكيما عندما أوضح لأطفاله قبل وفاته أن التعليم هو ذلك الكنز المكنون. وبه بدأ ربنا كتابه الكريم في أول آية نزلت بقوله تعالي: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" العلق: 1. إلي قوله تعالي: "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ" العلق: 4. وصار علي هذا النهج الكريم الرسول صلي الله عليه وسلم بأن جعل فداء أسري بدر أن يُعلم الأسير عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة. ومن هنا فإن تنمية التعليم قبل الجامعي له مداخل عديدة تتبعها الدول لإحداث التطوير، ومناهج فكرية تلجأ إليها لإحداث طفرة حقيقية، فنشأت فكرة المدارس الفكرية لذوي الإحتياجات الخاصة، تلتها فكرة المدارس المكثفة في الولايات المتحدة، والتي هي بطبيعة الحال عكس فكرة مدارس المتفوقين التي يفصل فيها الطالب المتفوق عن نظيره غير المتفوق، فيكون لها إنعكاسات سلبية علي غير المتفوق والتي يستشعر منها أنه طالب يلفظه المجتمع فيتأثر نفسيا وإجتماعيا وتربويا، ومن ناحية أخري تؤثر علي الطالب المتفوق فيها، إذ في هذه المدارس لن يكون الطلاب جميعهم علي درجة واحدة من هذا التفوق فيكون أحدهما بالنسبة للآخر أقل تفوقا، وتستند فكرة المدارس المكثفة علي أن التعليم الذي يقدم للتلاميذ الموهوبين مناسب أيضا لباقي التلاميذ ولكن هناك خلل آخر يجب معالجته، وقد هالني أن أقرأ أن تأتي كوريا في المستوي الثالث عالميا بعد الولايات المتحدة وكندا في نسبة الملتحقين بالتعليم بها، وأن تكون السويد بلد يواصل فيه الكبار العملية التعليمية، وأود هنا أن أستعرض عددا من الأفكار والإتجاهات التي يمكن أن تسهم في بناء تصور منهجي عام لقضية التعليم قبل الجامعي في مصر:
أولا: جودة المعلم، بإعتماد السياسات والتدابير التالية:
1- تدريب المعلم قبل الخدمة، والإرتقاء بمستوي هذا التدريب قبل إلتحاقه بالعملية التعليمية كمرب ومعلم، وهنا نعود إلي دور كليات التربية وتكليف خريجيها.
2- تدريب المعلم أثناء الخدمة، والذي يعد شكلا من أشكال التربية المستديمة الصالحة لتمكين المعلم من تحسين كفاءته التربوية.
3- مراعاة ظروف عمل المعلم والمتمثلة في كثافة الفصول وعدد ساعات وأيام العمل، والوسائل المتاح إستخدامها في العملية التعليمية.
4- تحسين الأجر بما يتناسب ونظيره في المهن الأخري بالمجتمع ليكون هناك نوعا من العدالة الإجتماعية، وعدم التفرقة بين أبناء الوطن لبث روح الإنتماء، وفي المقابل تجريم عملية بيع التعليم وأعني بها الدروس الخصوصية.
ثانيا: جودة المناهج، بإعادة تصميم المناهج والجوانب المتعلقة بها بما يتفق والهدف منها من حيث مواكبتها للتطور، وملاحقتها لتطور التنمية في المجتمعات المتقدمة، وربطها بخدمة المجتمع، وتعلق التلاميذ بمنهجيتها.
ثالثا: جودة الطالب، علي أن تشمل العملية التعليمية ترك الحرية للطالب ليتبّحر في المكتبات العامة ليُحصّل علومه، مع التوسع في التعليم العملي ليمارس الطالب هواياته ويحقق إنجازاته فيه، لأن المعمل هو منبع إدارة الفكر ودوران عجلة العقل، فينشأ الطالب المبتكر الذي قد يخدم المجتمع. وتحضرني هنا توصيات رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما لطلبة إحدي المدارس بأن النجاح ليس سهلا، فأنت لن تحب كل المواد التي تدرسها، ولن يعجبك كل مدرس يعلمك، ولن تجد كل واجب تكلف به ذا علاقة بحياتك وقت تكليفك به، ولن تنجح بالضرورة من أول مرة في كل ما تقدم عليه، ولكن هذا كله مقبول، بل إن بعض أكثر الناس نجاحا في العالم هم الذين طالما واجهوا الفشل واستوعبوا دروسه (يستحث فيهم مواجهة الفشل)، ويجب علي كل طالب أن يكتشف ذاته ونقاط تميزه والإهتمام بقدراته (يستحث فيهم الإبتكار)، كما أنه لا أحد يمكنه إجبارك علي أن تتعلم فما لم تكن ترغب من أعماقك في أن تتعلم فلن تجدي جهود الحكومة ونفقاتها أن تعلمك (يستحث فيهم حب التعلم)، وإذا وقعت في مشكلة فهذا لا يعني أنك مصدر للمشكلات، وإنما معناه أن عليك أن تبذل جهدا أكبر لتتعلم حسن التصرف (يستحث فيهم حسن تصريف الأمور)، وإذا حصلت علي درجات ضعيفة فهذا لا يعني أنك غبي، إنما يعني أن عليك أن تمضي وقتا أطول في الإهتمام بدروسك (يستحث فيهم المذاكرة)، ولا تخش أن تسأل ولا تتردد في طلب المساعدة حين تحتاجها، فأنا شخصيا أفعل ذلك كل يوم فطلب المساعدة ليس مؤشرا علي ضعفك وإنما هو دليل علي قوتك، لأنه يكشف عن شجاعة الإعتراف بأنك لا تعرف (يستحث فيهم طلب العلم).
رابعا: جودة النظم الإدارية الفعالة: وخاصة إدارة المدرسة مجال آخر من مجالات تطوير التعليم قبل الجامعي، وهي نقطة البداية الرئيسية لإستثمار الكفاءات البشرية بما يسمح بإستثمار طاقتها، لأن المدرسة مؤسسة تربوية يجري فيها بصورة منظمة وممنهجة تنظيم أنشطة ذات طابع تربوي، وإن كان الشكل العام أن المعلم يعمل بمفرده، إلا إنه ينتمي إلي فريق يتعاون أعضاؤه معا علي صياغة ما يمكن تسميته بثقافة المدرسة، ولن يتسني لها أن تقدم تعليما جيدا ما لم يتولي إدارتها مدير كفء ذو فكر منهجي رشيد ومبتكر بالتعاون الفعال بجانب المعلم.
خامسا: تعزيز قيم المشاركة المجتمعية، للإستفادة من تبادل الأفكار والرؤي بين القائمين علي العملية التعليمية بشكلها الرسمي، وبين القائمين عليها بشكلها غير الرسمي وأقصد بهم أولياء الأمور من أصحاب الفكر التنويري المبدع والمبتكر.
سادسا: تعميم فكرة مدارس الجودة والتنافس، وتشجيع المدارس التي تخفق في تحقيقها علي النهوض بها مرة أخري بتشجيع التنافس من أجل الإرتقاء بمستوي الخدمة التعليمية، وتخصيص جائزة تقديرية لمجال تطوير التعليم لمن أبدع وأضاف وساهم في هذا المجال.
سابعا: الإعلام عن التجارب المدرسية الناجحة، بهدف تدعيم مصداقية مردود جهود التطوير في التعليم قبل الجامعي، فالعبرة عند المواطن هي تحقيق نجاح مرئي وسريع يدعم لديه الثقة في العملية التعليمية برمتها من ناحية، ويساعد علي التنافس بين الإدارات التعليمية المختلفة من ناحية أخري.
ثامنا: التكامل، وأعني به وجود تكامل بين الوزارات المسئولة عن العملية التعليمية وبين باقي مؤسسات المجتمع الحكومية والخاصة، إذ أن هذه الوزارات هي البوتقة التي تضخ سنويا إحتياجات تلك المؤسسات من رأس المال البشري.
وفي النهاية فإن رسالة العملية التعليمية في هذه المرحلة ينبغي أن تستهدف تغيير الوضع القائم، لا إصلاحه، ببناء وإعادة الرسم الهندسي الذي قامت عليه منذ سنوات، وبالأحري إعادة الإختراع وإكتشاف دور التعليم في تحقيق نهضة مصر المعاصرة. فهل من مجيب؟.
0 التعليقات :
إرسال تعليق