نضالات التنسيقية الوطنية للأساتذة "المقصيين من الترقية بالشهادة".. نضالات الدكاترة: استحضارات بريئة..
"المتعصبون صور فاتنة للعامة، لأن البشر يفضلون رؤية إيماءات تافهة بدلاً من أن يسمعوا صوت العقل". فردريك نيتشه
1- هديل الذاكرة..
بذاكرة موشومة أيما وشم، أستحضر نضالات الشغيلة التعليمية بمختلف أطيافها: حاملو الإجازة والماستر وغيرهما، مثلما أتذكر الانتصار الألمودي لنضالات الدكاترة وغيرهم.. أستحضر ما يمكن استحضاره من هذا الركام الهائل من الصور الحبلى بالشعارات المجلجلة والمتكررة في عمومها، والأصوات الصادحة المعبرة عن الإحساس بالظلم والتمييز والتفضيل، والبيانات التضامنية الصادرة من هنا ومن هناك؛ وأستحضر تلكؤ طيف نقابي في توقيع بيان، وتماطل آخر في انتظار أن يوقع فصيل آخر، وإعراب نقابة عن ختمها للبيان قبل قراءته لحاجة في نفس "أبناء" يعقوب هذه المرة.
أستحضر حرارة "القضية" مذ كنا معطلين وأروم بقصد وبغير قصد، التأمل في ما فعلناه وما لم نوفق فيه، وما قلناه ساعتها من شعارات و"بطولات مجيدات" أسفرت على ما أسفرت عليه ..ولله الحمد والمنة.
لا أعرف لماذا تنهال علي مثل هذه الصور كلما تابعت خبرا نضاليا أو حراكا شعبيا في بقعة من بقاع هذه البسيطة الحبيبة..ربما لأن معادلة النضال لم تتغير ولم تتطور رغم أن الزمن الإداري يسير بخطاه الحثيثة والواثقة من قدرتها على ترويض وكبح جماح كل من زعم منا في الأمس القريب، ومن يزعم اليوم في الواقع الجديد، القدرة على نحت حصان طروادة من عجين يأبى إلا أن يحتفظ ببصمات من تجرأ ولم يخفف الوطء على أديمه "المقدس"..
ما أشبه الأمس باليوم، وما أشبه نضالات دكاترة التربية الوطنية بنضالات الأساتذة "المقصيين من الترقية بالشهادة" مع فوارق سياقية واضحة ونضالية معدودة، تدفع كل متبع لثقافة الاحتجاج إلى إعادة طرح السؤال ومناولته في صيغته السليمة حول علاقة نضالات الشغيلة التعليمية بالنقابات الخمس؟ بل بالسؤال الأكثر جرأة الذي طرحناه سابقا بكل مسؤولية في منبر من المنابر "هل نحن في حاجة إلى النقابات؟"
ما كنت أتساءل بصدده دائما: هل تقوم الشغيلة التعليمية تحت إشراف النقابات المؤطرة لها بدراسة المسارات النضالية السابقة وتبين نقاط القوة والضعف فيها في أفق التقعيد الحقيقي للفعل النقابي وترشيد أدوات اشتغاله؟ هل كل النقابات تملك القدرة الكافية لتقول للشغيلة بأن هذا الملف له مشروعيته المطلبية والتفاوضية ثم النضالية؟ أم إن الأمر يتعلق بوضع خاتم الإطار النقابي رهن إشارة من يريد التجول بأمان في شوارع الرباط؟
أعرف أن النقابات هي أفراد وأشخاص تتفاوت نوازعهم وتتباين نواياهم، وأعرف أن نوايا الصلاح حاضرة في كل الإطارات، وأومن بأن أصحاب الوجوه "القاسحة" هم أكثر تأثيرا أمام حياء وحيادية الصالح المستحيي غير القادر على الجهر بالحق الذي يؤمن به، أو الخائف من شيء ما..
2-سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ..
ما يهمني في هذا المقام – دونما حاجة إلى الاعتراف بأهمية القيام بمقارنة معادلتي النضال عند الفئتين- هو الشكل النضالي الذي خاضته التنسيقية منذ ما يربو على ثمانين يوما لا أبالك يسأم، مثل اعتصام الشهرين لدكاترة قطاع التربية والتكوين في إطار التنسيقية الوطنية للنقابات الخمس والذي أبدع أشكالا نضالية متنوعة.. سيأتي الزمان الذي يمكن فيه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لتقويم التاريخ النضالي بنِيَةِ التخليد والتجديد والترشيد..
أقف مع نفسي الآن إجلالا لتلك اللحظات المشرقة من تاريخ التحام الدكاترة في لحظة حضارية ومعرفية للفت الانتباه إلى ملف مطلبي وازن عنوانه الاستراتيجي هو إعادة الاعتبار للوضع الاعتباري للدكاترة وللبحث العلمي.أكيد أن المشهد لا يخلو من نفحات محزنة ومقلقة، غير أني لا أتغيا في هذا المقام التفتيش عن عورات شكل احتجاجي شهد له القاصي والداني بالتميز وأفرز "التزام" عُرْقُوب بحل ملف الدكاترة عبر ثلاث مباريات-دفعات في أفق الطي النهائي لهذا الملف في أفق 2012 !!
مرت مبارتان استفاد منهما من استفاد، ولم نجرأ يوما على اتهام زملاء لنا بالخيانة أو بالتواطؤ، لأنا كنا نعتقد بأن المعركة أكبر من ذلك..كانت تفتح نقاشات معرفية وأوراش ثقافية وحلقات نقاش تقويمية لمسار التفاوض ولآليات وأشكال الاحتجاج الممكن والمتاح.. لكل فصيل تصوره في أدوات الاحتجاج هو بالمناسبة حر فيها.. غير أنني كنت بمعية من كان معي، أرفض رفض تاما مسألة إحراق بحث الدكتوراه –ولو في بعده الرمزي- لأنني أفتخر بعرق الجبين، وأحترم ما دونته وألفته خلال المسار الدراسي الجامعي وأقدر ما أنتجته أناملي حتى وإن لم تعترف به السياسة الثقافية والاقتصادية للبلد.
كنت أرفض حرق الجسد بالبنزين لعقيدة داخلية تجعلني أعتز بالجسد الذي منحني الله إياه، الحامل لعقل عليه ألا يكون عدميا وأن يفكر وأن ينتج دفقا من الأمل والتفاؤل.
يوم دَعْوَة الوزارة إلى المباراة بعدد المناصب المخصصة آنذاك، وتضارب المواقف حول الأمر وحول الخيار النضالي المطروح للتعاطي مع عرض الوزارة، لم نفكر إطلاقا في النزول إلى مقرات المباريات ونعت من قدم ترشيحه لاجتياز المباراة بالخائن أو بتصويره بنية نشر صورته والتشهير به في الفايسبوك، مع العلم أنه بمجرد أن تم الإعلان عن المباراة تدفق المئات ممن لم يحضورا ولو يوما واحدا لإضراب التنسيقية ولا لاعتصامها لأنهم كانوا يهيؤون نهج السيرة، وقدموا ترشيحاتهم، بل نجح بعضهم بطرقه الخاصة في الظفر بمنصب في مركز من المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين.. وقلنا ساعاتها إخوان ورفاق لنا استفادوا في انتظار البقية ..
الشعارات التي كانت يرفعها الدكاترة، كانت تحترم كل الأطياف المتواجدة في الساحة وتحث على الوحدة والتكتل، رغم الاختلافات الايديولوجية الموجودة لأن ما كان يجمع الدكاترة أقوى وأمتن..
أتصور إن من بين أهم المخاطر التي تتهدد أي شكل نضالي تخوضه الشغيلة، هو عدم التوافق على أرضية نضال مُجَدْوَل كامل الأوصاف وواضح الأركان، وَفْقَ سقف نضالي مَبْنِي على تعاقد جلي..لأنه في غياب ذلك، وباستحضار تفاوت المطامح واختلاف النوايا والمقاصد عند بعض الشغيلة ممن تحركهم ضغائن دفينة وأحقاد ايديلوجية قابعة في اللاوعي، يقع التضارب في الأمر، فتصطدم إرادة سواد مهم من الشغيلة مع النقابات التي تحكمها ارتباطات والتزامات وتقديرات معينة مع الوزارة، فيظهر الخطاب الجديد القديم: تخوين النقابات ووصفها بمختلف الأوصاف التي نعرف والتي لا نعرف..
3-عند المباراة، يعز المرء أو يهان..
يحز في نفسي اليوم أن أجد فئة واسعة من زملائنا في مقامات النضال لا يقدرون على التعبير عن مواقفهم في مسألة الاحتجاج أو رفضه، أو إبداء الرأي في آليات النضال، أو يأتي إلى مقر المباراة بعدما قدم ترشيحه إلى المباراة -إما علنا أو خلسة المختلس- ولا يجرؤ على الدخول إلى مركز الامتحان بدعوة الخجل أو الحياء أو الحرج أو ما شاكل ذلك من أدوات التبرير الذاتي إلخ..
يحز في نفسي أيضا أن ألتقي زميلا أو زميلة لي -بل حتى الخريجين الجدد- لم تحضر ولو مرة واحدة لأي محطة نضالية، فتنتقد النقابات وتخونها وترفع شعارات ضد الحكومة مطالبة إياها بالرحيل.. لترحل بعدها إلى مؤسستها..
يحز في نفسي أن أجد زميلة تريد اجتياز مباراة الترقية وتمنع من قبل أحد زملائها بشكل مهين ومحرج وتقذف بنعوت من قبيل: "الانتهازية والحشرة والله إما طفريه.." بل ويشهر بها في الفايسبوك..
يحز في نفسي آن أجد زميلا يعبأ زملائه وزميلاته، بل ويرافقهم في سيارة أحدهم ثم يتركهم أمام الشكل الاحتجاجي، ويذهب إلى الموارد البشرية بالعرفان ليحصل على وثيقة إدارية ليعود بعدها إلى الساحة ويرفع يديه بعلامة التضامن المعروفة..مع العلم أنه قدم شهادة طبية للسيد مدير المؤسسة.. أستحيي من وصف مثل هذا السلوك..
إن من الأخطاء التي تقترفها أي "إرادة" نضالية أو احتجاجية، هو عدم تأسيسه للفعل الاحتجاجي على عُدَةٍ أخلاقية صلبة، وثقتها في الأعداد التي تأتي في الأيام الأولى "لالتقاء الجمعان" لأنها تتصور أن المشكل قريب الحل، لكن سرعان ما تشرع تلك الفلول في الانسلال شيئا فشيئا..
ومن الألغام المخيبة لآمال كل راغب في الحراك، استمرار ثقافة الإشاعة بشكل فظيع، والترويج لمغالطات من باب التلميح الرافل بأكاذيب مفادها أن تيارا معينا مع المباراة في نزوع غير بريء لاستثمار مثل المحطات النضالية لتصفية صراعات سياسية محسومة؛ وينسى المروجون لهذه المخدرات الكلامية أن يذكروا الحاضرين بالأطراف النقابية التي وقعت على النظام الأساسي الأخير الذي أغلق باب الترقية بالشهادة في السنة المعلومة، واليوم المشهود، قبل أن تعمد الوزارة في سياق ما إلى إِعْمَال باب الاستثناء..
طبيعي أن تخفي خوفك، وأن تخشى الاعتقال والعصا وما جاورهما، ولكن من غير الطبيعي أن تخفي هذه المشاعر وتُهَرِب هذا الشعور الطبيعي وتعلقه على الحكومة أوالنقابات أو سلوكات بعض أفراد تنسيقية ما بهدف إيهام النفس الأمارة بالخوف بضرورة العودة إلى مقر العمل..
العمل النضالي الحقيقي عموما، سواء أكان نقابيا أو سياسيا لا تستميت ولا تصمد فيه إلا الطلائع، ولا تُوَلاه النفوس الباحثة عن الشهرة أو الساعية إلى تصريف أحقاد ايديلوجية، أو القائمة بالوكالة بأعمال أطراف همها الوحيد إبقاء حالة التوتر والشحناء في الساحة في أفق الإجهاز على ما تبقى من دفئ وعرى ما كان يسمى يوما ما بالأسرة التعليمية..
بقدر الذي يحز في نفسي أن أرى صور زملاء لي وقد وصلت إليهم أيدي أفراد التدخل السريع، بقدر ما أرفض أن يكون الأستاذ لين العريكة، غير واضح القناعة، أمام من أكرمهم الله بفصل الخطاب والقدرة على إحراج الناس وإبقاء "البيضة فوق الحجر"..
وبقدر ما أستحضر –حسب ما شاع في عدد من المواقع- مطالبة القضاة في ألمانيا بمساواة رواتبهم برواتب المعلمين، وأتذكر رد المستشارة الألمانية (ميركل) عليهم "كيف تريدون منا أن نساويكم بمن علمكم؟! والتي يتلذذ بعض زملائنا في حكيها بكل لذة وعنفوان؛ بقدر ما أتذكر الزيادة في أجور البعض التي استغلها بعض البحارة الرقميين ممن يتقنون التمترس خلف الشاشة وأنظمة الرقم، ليروجوا لخطاب التيئيس والتبئيس والتبخيس وإشعال أوَارُ الكراهية..
يحز في نفسي أن أجد بعض زملائنا بعدما انتقلوا من أقاصي القرى إلى الحواضر، وبعدما غيروا الإطار إلى الثانوي التأهيلي وظفروا بتعيين مريح، ينقلبون بعد عشية وضحاها إلى ركب الهاجين للنقابات والمكفرين للساسة، وإلى منتحلين لأسماء مكسيكية في بعض منتديات التنفيس التي تخصصت في نقل الفضائح وتسلية الشغيلة بمشاكل الشغيلة..
المعادلة ذاتها، في الأمس القريب استطاع دكاترة التربية الوطنية بمعية النقابات الخمس أن يلجوا المراكز الجهوية للتربية والتكوين بعد المبارتين المعلومتين، لكن سرعان ما تحول بعضهم إلى القول إن نقابة ما هي الممثل الوحيد لشغيلة المراكز..
إن مقاربة وشائج صلة الشغيلة بالنقابات، وببعضها البعض، يجعلنا نستشعر حجم الأزمة القيمية التي يعيشها نساء ورجال التعليم: لا نحن قادرين على تصحيح المشهد النقابي وإصلاحه، ولا نحن قادرين على تحقيق المطالب خارج النقابات، ولا نحن قادرين على إبداع أفكار جديدة للدفاع عن الوضع الاعتباري لمن كاد أن يكون في مرتبة الأنبياء..تلك هي المعادلة الصعبة..
4-إن المعلم لا يعيش طويلا:
حقيقة، إننا نعيش أعطابا متعددة في منظومتنا التربوية، وأن واقع أحوالنا في زمن التشيئ والمادة ليس بالمُفْرِح، لكن لا يجب أن ينسينا هذا ضرورة أن يقتنع الأستاذ بكرامته أولا ويستشعرها كي يرى الوجود جميلا.. وعَاطِفِي بامتياز من ظن يوما أن المعلم كان يجالس هارون الرشيد أو سلاطين المماليك أو ملوك الطوائف.. كل ما سمعناه وعقلناه هو "الفَلَقَة" التي نحمد الله عليها رغم أن مسؤولينا الجدد المتشبعين بثقافة حقوق الطفل ضنوا بها على أبنائنا اليوم.. ما يوجد في رواسب الذاكرة نُتَفُ قصائد من قبيل "قم للمعلم.." و"صوت صفير البلبل.." ولم يدرسونا نص طوقان "إن المعلم لا يعيش طويلا.."
الظاهرة التعليمية اليوم ظاهرة إعلامية بامتياز..تتجاذبها أيادي متعددة معلنة وغير معلنة..
الأستاذ فوق كل هذا وذاك، ليس في حاجة إلى من يزايد عليه حتى من زملاء له. ما أحوجنا اليوم إلى جلسة مناجاة وخلوة مع ذواتنا، إلى لحظة "اعتراف"، إلى لحظة تساؤل وتقييم لكل المحطات النضالية في أفق نحت وعي سليم للنضال مبني على التعاقد والتدافع الحقيقي في مسلسل التغيير، بدل التنظير وإلقاء الكلام على عواهنه من باب التعميم والتنفيس، لأن من شأن هذا أن يساهم في تثبيت الوضع وإبقاء حالة التردي وطفو خطاب الاهتراء.
الشغيلة التعليمية اليوم في أمس الحاجة إلى نظام أساسي عادل منصف لجميع الفئات الشغيلة التعليمية ينهي عهد التمايز بين مكوناتها، مثلما هي في أمس الحاجة إلى الانخراط الحقيقي في لعبة التغيير الذاتي للنفوس أولا، والانخراط في ميدان الإصلاح والتغيير ثانيا..
لكن من يبدأ؟ هل أنا أم أنت؟ أم الآخر؟ هي لعبة الضمائر الغاوية والمُرْعِبَة والمُضَلِلَة..
لحظة البدء حانت، ومن لم يبدأ عليه أن يموت. أو هكذا تكلمت صاحبة النار والاختيار..
تضامني الخالص مع المناضلين والمناضلات، ومع من قضى منهم نَحْبَهُ ومن ينتظر..وأتمنى "للثلة الناجية" المخلصة ألا تبدل تبديلا..
وكل عام وكرامة الأستاذ فوق كل اعتبار..
والبقية ربما تأتي..
سعيد الشقروني
0 التعليقات :
إرسال تعليق